دمشق جنة الجزيرة العربية(سوريا)
حينما كنت أطأ أرض دمشق وبرفقتي صديقي الدكتور الصيدلي خالد تفاحة وكان الجو رغم برودته لطيفاً والهواء عليل والسماء صافية تتلألأ النجوم فيها مثل عقد من اللؤلؤ المتناثر في الفضاء كانت السيارة التي تقلنا قد تعطلت على طريق الأوتوستراد بعد مدينة درعا بقليل وكنت سعيداً بتعطل السيارة بعكس بقية الركاب لأن هذا يعطينا بعض الوقت للتمتع بقضاء أكبر وقت ممكن تحت قبة السماء في الصحراء الممتد بعيداً عبر المروج التي تحيط بالأوتوستراد وشعور بالحذر من الهواء العليل القادم من الغرب ،أو ماراً فوق بحيرة المزيريب بينما أضحت على يميننا وعلى بعد عدة كيلومترات مدينة بصرى وأمامنا على بعد مائة كيلومتر تربض دمشق أول عاصمة في الأرض شهدت ميلاد أول لغة في العالم وحضارة أوغاريت (إنها عاصمة قديمة قدم الأرض وينابيعها وأنهارها - بردى والعاصي – هذا النهر الذي يسير عكس أنهار العالم جميعاً ليحطم كل النظريات العلمية ) دمشق والتي عرفت البيمارستانات والطب منذ أعماق التاريخ وعرفت التكايا حيث يتولى رعاية عابرين السبيل في الأكل والشرب والنوم على نفقة الدولة والسلطان ، والتمتع بأروع مناخ ربيعي طبيعي في العالم العربي حيث تتحول كل مروج وجبال وسهول الشام إلى مهرجانات للألوان والزهور والنباتات البرية المدهشة حيث يتوافد في الصيف من كافة أقطار العالم العربي الضيوف والزوار في سياحتهم وإجازاتهم السنوية يقضونها في المصايف الرائعة وقليلة التكاليف أو على شواطئ البحر والتمتع بالجمال والراحة النفسية والصحية والعقلية إن بهجة الإقامة في دمشق في فصل الصيف تعني قذف هموم الدنيا ومتاعب العمل وعناء وكد عام بأكمله تبدأ البهجة والشعور بالجمال والهدوء ، وتبلغ ذروة الزيارة قمتها حينما يدخل الزائر قلب دمشق متوجهاً إلى سوق الحميدية وهو أقدم الأسواق العربية للتجارة بعد أسواق مصر الفاطمية والتي تكاد تتجاوز الألف عام بقليل.
وسوق الحميدية ليس كما يدل عليه إسمه كسوق إنه عالم كبير عمد مصممه على أن يكون فيه كل شيء يحتاجه المسافر والمقيم والتاجر والمشتري والفقير والغني على السواء وفيه عدى الأسواق قلعة صلاح الدين وباب الفرسان المرصوف بالحجارة الكبيرة على كتف نهر بردى ، إن سوق الحميدية ليس سوقاُ فقط إنه من أعجب الأسواق في العالم ففيه تمتزج التجارة الدنيوية مع التجارة الروحية التي لا تبور بوجود المسجد الأموي الذي يأمه الآف الزوار من بين عابد وزائر وعاشق للتاريخ والجمال والسياحة ،وفي سوق الحميدية قبر صلاح الدين الأيوبي وقائد جيوشه يرقدان بسلام ولا تستوقف وفود الزائرين لهما والتقاط الصور التذكارية ،وفي المسجد الأموي قبر ومقام النبي يحيى عليه السلام الملقب يوحنا المعمدان ومئات المقامات والأضرحة ، ففي هذا السوق سوف يجد أشد الناس صعوبة بالمزاج ضالتهم من المشتريات التي يعشقونها ، إن في شارعها الأيسر سيل متلاطم من البشر ذهاباً وإياباً ومن زار دمشق ولم يزر سوق الحميدية ويشاهد مافيه فهو كأنه لم يزر دمشق أصلاً.
وسوق الحميدية هو سوق فيه مئات الاسواق تتداخل في بعضها البعض رغم انفصالها عا بالتخصص التجاري ، ففيها سوق النحاسين الذين يمتهنون طرق النحاس وصناعة الأواني النحاسية المميزة بحيث تكاد أصوات مطارقهم على النحاس تشبه عزفاً خاصاً تشدك بقوة إلى مشاهدة الإبداع والفن . وسوق بهارات،وسوق للملابس ،وسوق لمواد البادية من سروج خيل واللجام وجيوب السلاح والمسدسات وأنواع الأحزمة الجلدية من الجلد البقري إلى جلد الغزلان والأفاعي وحتى الجلد الصناعي . وسوق للخشب والنحت عليه وصناعة القباقيب الخشبية المشهورة في الشام وسوق بهارات وتوابل وحبوب وموالح ولوزيات وحلويات وفي سوق الحميدية حيث تجد الحمامات الشعبية القديمة والتي تمتلئ يومي الإثنين والجمعة بالرواد حيث يستمتع الرواد بالحمامات ومياهها الساخنة وبعد أخذ الحمام يجلس الروادد في قاعة الحمام لشرب الشاي المتميز النقي من ماء عين الفيجة الأكثر عذوبة في الشرق الأوسط ، وتدخين الأرجيلة ، وكل ذلك بثمن يكاد يكون رمزياً بالقياس لأسعار الأمكنة الأخرى.
إن سوق الحميدية هو سوق الدهشة لما يحويه من أشياء لطيفة ومرغوبة ومحببة وجميلة ورائعة لكل ما يحتاجه الزائر ، إن سر هذا السوق هو أنه يحفزك للشراء حتماً ولو لم تكن تفكر بالشراء ، إن زيارة سوق الحميدية هي التي سوف تكشف لك خاصية سر هذا السوق المدهش ، فحينما تضحي داخل السوق سوف تجد نفسك وبتلقائية تنسجم تماماً مع المكان وأصوات الباعة والنظر إلى المكان والواجهات والبضائع لتسأل عن أسعار بعض الأشياء ولتضع يدك في جيبك وتشتري ولو لم تكن تفكر في الشراء مطلقاً هناك شيء جميل ينتظرك ويطلب منك شراءه وهذا ما يميز سوق الحميدية المدهش .
ولا تكتمل زيارة دمشق دون زيارة التكية السليمانية في قلب دمشق على شاطئ بردى حيث يقع ضمن أسوار التكية المتحف الحربي والذي يحكي لك كل ما فيه عن تاريخ الحرب والسلام لهذه المنطقة منذ عهد الحضارات السابقة من سيوف ودروع ورماح إلى المدافع الرشاشة والمدافع الميدانية التي شهدت نيرانها مواقع كثيرة من الأرض العربية ومن تاريخ سروج الخيل وصهيلها إلى نماذج الطيران الحديث وقنابله المدمرة ، وعبر بوابته الشرقية يحيط بالممر دكاكين صغيرة لبيع التحف والشرقيات كتذكارات للزوار.
وقبيل مغادرة دمشق لا يجوز تجاهل محطة القطار التي أصبحت معلماً سياحياً هاماً وجميلاً جداً بزخارفها وطريقة بناءها والتي لا زالت تعمل حتى الآن في تشييد القطارات للركاب وللسياح كرمز للمحطة وتاريخ القطارات في الشرق الأوسط والتي تسمى محطة الحجاز ، ولا بأس إن كنت من المدخنين وعشاق الجلوس والتمتع في الجلوس تحت الشمس بين ظل الأشجار أن تسير بضع خطوات إلى مقهى محطة الحجاز لتدخين نرجيلة وشرب كوب شاي وتنظر إلى الذاهبين إلى سوق الحميدية والعائدين منه وأنت تجلس قريباً من الرصيف أما إذا كنت من غير المدخنين فسوف تعود ومعك الكثير من صور الذكريات الجميلة والرائعة التي لا تنسى .