الصورة أعمق من الصوت
لست هنا لأفتح مجالاً للكتابة الفلسفية ،أو الخوض في متاهة أبعاد الإنسان وخفاياه من العقل إلى القلب والعين واللسان ، ولكل هؤلاء خاصية ودور مدهش وخاصة الأذن والعين .
وسبب أن الصورة أكثر عمقاً من الصوت من وجهة نظري أنني مثلاً لا أستطيع تذكر اسم محدثي والاحتفاظ باسمه لأكثر من دقائق ويختفي تماماُ وكأن سماعي للاسم لا يعني شيئاً فيسقط في بئر ذاكرتي السماعية والتي أعتقد بأنها مثقوبة حيث لا يعود الاسم للظهور ولو حاولت التذكر لدرجة أنني قد أسأل محدثي عن اسمه أكثر من مرة بطريقة لبقة وذكية ،ومحرجة لي ولمحدثي ، مما يجعلني في حرج من هذا الموضوع ، وأيضاً هناك تذكر الأرقام ، فأنا لا يمكنني أن أتذكر هاتفي الشخصي رغم أنه يرافقني وفي جيبي منذ أكثر من عام وبضعة شهور وأحتاج إلى كتابته ووضعه في جيبي حتى أعطيه لأصدقائي عند اللزوم ، وحينما أقرأه أجده غريباً وكأنني أراه لأول مرة .
ربما يعود ذلك لكرهي الشديد للعمليات الحسابية ،وربما لأشياء أخرى لم أحاول اكتشافها ، أولم أكلف نفسي عناء اكتشاف نفسي حول هذا الموضوع .
علماً أن هذا أو هذه التي سألتها عن اسمها عدة مرات إن كانت كاتبة أو فنانة ، أو شاعرة ، لا أستطيع مطلقاً أن أنسى ولو حرفاً واحداً من أحداث اللقاء معها ، أو معه .وقد اكتشفت بأنني وصلت إلى مثل هذا الموضوع من الذاكرة بسبب أنني أغوص بعيني محدثي بعمق في وجهه وحركات عضلات وجهه ، وبملامحه وكأنني أقلب كتاباً أكرهت على مطالعته بسرعة والمطلوب من ذاكرتي وإحساسي أن تكبت خلاصة دقيقة عن هذا الموضوع ، سواء أكان لقاءً أو غيره بقراءة ملامح الإنسان وأبعاده النفسية ومن ثم أسلوب حديثه وبعد ذلك معاني كلماته وطريقته في تصوير ما يريد إيصاله لي ..
وبعد ذلك أتعامل مع الكلمات ككلمات هذه الأشياء تقوم بها عيناي فتشعل ذاكرتي بقوة وتنبه عقلي أيضاً بقوة وكأن حواسي تكون قبل ذلك في حالة من الاسترخاء أو النوم ويطلب منها الانتباه ،فلا أعود أنسى هذه الملامح مهما بعد الزمن ، وأتذكر بقوة ودقة كل الأحداث والكلمات والصور بشكل لا يدع صورة لأي شيء تنمحي من ذاكرتي أبداً .
أما بحالة السماع فقط فأنا لا أدري سر هذا الأمر وفلسفته بطريقتي بأنني لا أتذكر الأرقام لأنها جزء من العمليات الحسابية وأنا أكره العمليات الحسابية لأنها ضمن اهتمامات رجال المال والاقتصاد وعشاق سباق الحصول على الثروات أو حب المال وبطبيعتي فأنا في التجارة فاشل تماماً ، لأن التجارة لا تحتاج إلى إنسان عاطفي ، رقيق يؤمن بمبادئ الإنسان هو الشيء الأهم وليس المال.
بينما المنغمسين في عالم المال أو حب الثراء أو التخطيط للثراء يتطلب نبذ كل ما هو عاطفي والتجرد من العاطفة تماماً وتكون الكلمة الفيصل للمال والأرقام وحساب الأرباح والخسائر وليس الحب والحياة والإنسان .
وفي نظري أنا ليس مهماً أن أكون قد ابتعدت عن الحقيقة أم لا بل أنني أشعر بأن هذا هو ما توصلت إليه على أرض الواقع كشعور خاص جعلني أعشق كل ما هو غير مادي فمثلاً حينما أكون في مكان أثري تناثرت حجارته على مساحة كبيرة وبقي منها ما بقي ، شاهداً على عصر مضى وحضارة مندثرة ، فإنني أغوص فيما مضى من المكان وأهله وتاريخه وأبعده وأعيش لحظات وكأنني أعيش مع هؤلاء الذين كانوا هنا في هذا المكان ..فيجول بصري في الحجارة والنقوش التي تجعلني في لحظة ما يونانياً إن كانت الآثار يونانية وقد تجدني للحظة ما رومانياً أجلس في إحدى المدرجات وأسمع هدير صوت المشاهدين من حولي وهم يزأرون طالبين الموت لهذا المصارع الغالب وبإشارة صغيرة من إصبع الإمبراطور ينغرس السيف في صدر ذلك المصارع منكود الحظ الذي دفع حياته ثمناً للذة ووحشية لحضارة فيها الوحشية طاغية على القانون الغالب ولا مكان فيه للضعفاء.
وأحياناً أجد نفسي أجلس على المدرج الروماني في عمان وأتخيل كيف كانت الأسود الجائعة تخرج لتأكل أمام حشود المواطنين الرومانيين النساء والشيوخ والأطفال والعزل بينما نجد الجمهور في ذروة المتعة يتلذذون بموت الذين يعتبرهم أعداءً أو مخالفين لوثنيتهم والتي كانت تعتنق مئات الأرباب .فيجب تحطيم وسحق كل الذين لا يحترمون هذه الوثنية ومئات الأرباب ، فهناك آلهة الحب ، وآلهة المطر وآلهة للبحر، وآلهة للحرب ، وآلهة للبرق والرعد ، وآلهة للموت والحياة ، وآلهة للجمال وآلهة للذكورة والخصوبة ، وآلهة للأنوثة . وآلهة تقارع آلهة أخرى فيدفع الناس ثمناً لصراع هذه الآلهة التي تغضب فجأة وتصمت فجأة وحتى ترضى يجب أن يقدم لها أضحية بشرية وتسيل دماء ويستمر القتل المتلذذ للآلهة الغريبة الأطوار ويستمر الناس في صراخهم فرحاً ولهواً وتلذذاً حتى تروي ظمأها لموت الآخرين وإرضاء النزعات الخاصة واعتقاد الناس بإرضاء الآلهة بقتل هؤلاء الذين تجرءوا على إزعاجها.